النتائج الجيّدة بما فيه الكفاية أمرٌ كافٍ

الكمالية هي عندما تبدو آخر 5٪ من المشروع وكأنها 95٪ من العمل.

عندما أبدأ كتابة مقالة جديدة أو العمل على مهمة جديدة، ينتابني شعور النشاط والعزيمة. تبدأ الكلمات في الترابط والمعلومات الإبداعية في التدفق ويأتيني شعور أنني قادرٌ على إنجاز الكثير والكثير. ولكن يبدأ كل هذا في التباطؤ بشكل ملحوظ مع اقترابي من نقطة النهاية.

فأمُرر للخلف وأُعيد قراءة ما كتبته أو عملت عليه، كما أفعل الآن وأنا أكتب هذه المقالة. “ما هذا! كل شيء يبدو غير جيدًا!”. وأبدأ في لفظ بعض الكلمات مثل: كل ذلك لا معنى له، ولا يحتوي على متن ومفهوم صلب. أشعر أنني بحاجة إلى مراجعة الأمر برمته مجددًا.

وبينما تقصف هذه الأفكار عقلي، تتباطأ سرعتي ذات الحماسة العالية ومعها يبدأ المنحنى في النزول رويدًا رويدًا. استمرّ أو يستمر الوضع على نفس الحال في كل مشروع، حتى تعرفت على مبدأ مهم جدًا في الإنتاجية يُدعى «النتائج الجيّدة بما فيه الكفاية أمرٌ كافٍ Good Enough is fine».

أتحدث في تدوينة اليوم عن هذا المبدأ وأهميته وتجربتي مع استخدامه في الحياة المهنية.

المحتويات

  • تجربتي مع مبدأ «النتائج الجيّدة بما فيه الكفاية أمرٌ كافٍ»
  • أهمية هذا المبدأ في حياة المنتجات والشركات الناشئة
  • كيف تصبح «مدير جيد بما فيه الكفاية Good Enough Manager»؟

الكمالية هي عندما تبدو آخر 5٪ من المشروع وكأنها 95٪ من العمل.

الكمالية هي عدم القدرة على ترك توقعاتك تذهب.

تجربتي مع مبدأ «جيد بما فيه الكفاية»

تبدأ حالة «ليس جيدًا بما فيه الكفاية» في التسرب إلى المشروع رويدًا رويدًا حتى تتمكن من الأجزاء الرئيسة وتعطلك تمامًا. إنها عندما تشعر بأنك قريب من خط النهاية، ولكنك لن تسمح لنفسك بعبوره. عندما تكون مهووسًا بكل كلمة أخيرة، وكل تفصيلة صغيرة، وكل ملاحظة أخيرة. إنها الاعتقاد بأن ما لديك الآن لا يناسب الرؤية التي وضعتها، لذلك تدفع نفسك وتعمل بلا كلل للوصول إلى هناك.

في حين يكون شريط حالة المشروع أكثر منطقية عندما نراه جنبًا إلى جنب مع تدرج التوقعات هذا.

في بداية أي عمل، لا يكون لديك أي توقعات لأنك لم تعمل أو تنشئ أي شيء بعد. لا أحد يتوقع أن يكون دفتر الملاحظات الفارغ من أكثر الكتب مبيعًا.

عندما ترى صفحة بيضاء جديدة، فمن السهل تجربة جميع أنواع الأفكار. هذا يسمح لك ببناء الأشياء بسرعة دون تردد كبير، ودون الكثير من التوقعات.

ولكن مع تكدس أفكارك فوق بعضها البعض، يبدأ ذلك الموضوع المميز الذي تحاول الإبداع فيه في التطور، ومن ثم تشرق أقواس السرد وتبدأ في التبلور، تتواصل النقاط مع نقاط أخرى، وهناك توجد التوقعات لمواصلة المزيد من التواصل بين بعضهما البعض.

هل هذا جيد وكافٍ؟

يبدأ يتكوّن لُب العمل ببطء، وهو أمر مثير. لست متأكدًا تمامًا من النتيجة النهائية، لكنك تبدأ في تطوير التوقعات بأنها ستكون على الأقل شيئًا مثيرًا للاهتمام.

بينما تغامر في الربع الأخير من شريط التقدم -كما هو موضح في الصورة- يصبح الجدّ حقيقيًا. لديك الآن شيء ملموس لمشاركته مع الآخرين، وهناك شيء حقيقي يرتكز على مفهوم مركزي تريد نقله ونشره مع العالم. لقد استثمرت الكثير من الوقت، ومن الطبيعي أن تبدأ توقعاتك في الارتفاع.

ولكن في النهاية العليا من هذه المرحلة، يمكن أن تصبح المثالية جامحة ومسيطرة تمامًا دون رأفة.

كما ذكرنا آنفًا، بالنسبة للكماليين، فإن آخر 5٪ من شريط التقدم يمثل هلاكهم ولعنة وجودهم. إنه عندما يضعون أنفسهم ليس فقط ضد التوقعات العالية، ولكن المستحيلة.

ما هو مستوى توقعاتك خلال المشروع؟

يوجد العديد من الأسباب التي تزيد من احتمالية ظهور البعبع المخيف، الكمالية، مثل:

  • الخوف من الفشل the fear of failure
  • يمكن أن يكون الخوف من الرفض the fear of disapproval
  • يمكن أن يكون شكلًا من أشكال التسويف، حيث يُلقي بالكمالية كعذرًا لتأخير إنهاء المشروع.

لكن في نهاية المطاف، السعي إلى الكمال هو نتيجة رؤية بعيدة المنال. لأن الأيادي لا تستطيع إعادة إنشاء المخططات المثالية المرسومة فقط في العقل، بغض النظر عن مدى صعوبة المحاولة. يحاول أنصار الكمال تجاهل هذا الواقع ، لكن القيام بذلك سيؤدي دائمًا إلى مطاردة لا تنتهي أبدًا.

يتعلق الإبداع إلى حد كبير بقبول أننا دائمًا في مهب مستمر، وأنه لا يوجد مشروع فردي له بداية أو نهاية محددة. من المفهوم أن إمكاناتنا الإبداعية يتم تحديدها من خلال مزج عملنا لخلق اتجاه عام، والذي نأمل أن يتقدم في الاتجاه الصحيح.

تقصّر الكمالية وتحد خط الاتجاه هذا عن طريق رفض إضافة المزيد من العُقَد إليه. نظرًا لأنه لا يمكن إطلاق كل مشروع إلا بعد عبوره معيار نهاية معين، فلن يخرج أي شيء على الإطلاق. إن وهم شريط الإكمال بنسبة 100٪ يمنع الإبداع من التقدم، ويخنق نموّنا كنتيجة طبيعية لذلك.

هذا هو السبب في أننا يجب أن ننظر إلى شريط التقدم الخاص بنا ليس فقط من خلال عدسة التوقعات، ولكن أيضًا من خلال السهولة التي يمكننا من خلالها إطلاق العنان لعملنا لكي يحلق في سماء الأمور الكافية.

أتخيل هذا على أنه جبل يبلغ ذروته في قمة ضيقة من الكمال. تتوافق كل طبقة مع مرحلة تحددها توقعاتنا، وكلما كانت الطبقة أضيق، قل الناتج الذي تحصل عليه من تلك المنطقة، لاحظ أنه من بين كل هذه الطبقات، فتعتبر منطقة Good Enough هي الصالحة للحياة والشرب:

قوة التوقعات

دعنا أولاً نوضح ما يعنيه وما لا يعنيه مبدأ “جيد بما فيه الكفاية Good Enough”.

  • مبدأ جيد بما فيه الكفاية ليس عملاً سيئًا. إنه ليس محاولة فاشلة لخلق شيء ما لمجرد إخراجه. لا يتعلق الأمر بإطلاق سراح عمل تعلم أنه يحتاج إلى مزيد من الوقت والتفكير.
  • بدلاً من ذلك، يكون الجيد بما فيه الكفاية Good Enough عند الانتهاء من العمل الشاق لكي تصل إلى 95٪ وأنت مدرك ومتيقن أن النتيجة جيدة كفاية وأنه لا بأس من إطلاق سراح النتيجة والمخرج النهائي. إنها القدرة على إدراك أن حالة 100٪ هي بناء للعقل، ومتابعتها ستأخذك بعيدًا عن استكشاف مجالات الاهتمام الأخرى.
  • جيد بما فيه الكفاية Good Enough هو عندما تكون على دراية أن العمل والمخرج النهائي ليس مثاليًا، لكنه لا يزال يحترم ذكاء جمهورك. هذا ليس بالضبط ما تخيلته، لكنه لا يزال جيدًا بما يكفي ليستحق استثمارهم في الاهتمام.

كصانع محتوى ومبدع، لن تشعر أبدًا أن عملك قد اكتمل. يمكنك فقط الوصول إلى النقطة التي تشعر فيها أنه من الجيد إطلاق سراح النتيجة وتركها تُحلّق بعيدًا. وإطلاقها هو الطريقة الوحيدة لبدء شيء آخر من شأنه أن يعزز تقدمك الإبداعي ويحسّن النتيجة باستمرار، ويكتمل المخرج النهائي مع متطلبات الجمهور تمامً.

ما نفتقر إليه في الكمال يمكن تعويضه بالاستمرارية والنفس الطويل مع بعض من التركيز.

جيد بما فيه الكفاية هو ما يسمح لنا بالمضي قدمًا والمحاولة مرة أخرى.

أهمية مبدأ «جيد بما فيه الكفاية» في حياة الشركات الناشئة

وهو أن تميل إلى حل المشكلات من خلال إيجاد “حل جيد كاف”.  الحل الأبسط والأسهل والأرخص الذي يوفر لك 90٪ من الطريق. لا يجب أن تكون مثاليًا.  لا يجب أن تكون رائعًا.  يجب أن تكون جيدة بما فيه الكفاية.  جزء من هذا هو إعادة صياغة وتبسيط المشكلة نفسها.  وتذكر أنه يمكنك دائمًا تحويل “جيد بما فيه الكفاية” إلى “رائع ورهيب” لاحقًا.

إليك مثالين من تجارب حقيقية خضتها مع مبدأ «جيد بما فيه الكفاية» في أثناء العمل على مشاريع كبيرة خلال حياتي المهنية:

التجربة الأولى كانت في أثناء عملي مع شركة مجرة. أذكر حينها كم مرة أجّلنا فيها إطلاق مشروع SSO وتسويفه من موعد إلى آخر حوالي خمس مرات لتطول مدة المشروع إلى تسعة أشهر تقريبًا وكان من المفترض أن يأخذ نص هذه المدة فقط.

ولكن عندما أدركنا أن المشكلة تكمُن في الكمالية وأننا نركز بصورة مبالغ بها على التأكّد من حالة جاهزية المشروع 100%. ولكن على النقيض عندما غيرنا عقليتنا كفريق وأن ما أنجزناه كان 95% وجيدًا كفاية، أدركنا وقتها أنه حان الوقت لإطلاق سراح هذا المشروع بنتيجته الجيدة إلى فضاء الإنترنت العربي.

تغيير بسيط في العقلية أدى إلى نتائج عظيمة. هذه اللحظة كانت فارقة في حياة المنتج وربما في حياة أكبر شركة عربية في مجال المحتوى. لذلك أيقنت أن مبدأ “النتائج الجيدة بما فيه الكفاية أمرٌ كافٍ” مهم جدًا في حياة أي منتج/ شركة ناشئة.

بينما كانت التجربة الثانية في مساق، إذ واجهنا نفس المشكلة عندما كنا نبني أضخم مشروع عملت عليه وهو مشروع لوحة التحكم الجديدة في مساق، وما تعلمته هنا أن «الكمالية هي عدو الإنتاجية». إذ ركزنا ولمدة طويلة جدًا على جعل المنتج في حالة 100% للإطلاق، بينما كان هذا مستحيل عمليًا.

عندما تريد أن تتأكّد أن كل شيء يجب أن يكون في حالة الجهوزية التامة 100%؛ فأنت لست إلا حالمٌ وتُضيّع كثير من الوقت على نفسك والفريق والمنتج والشركة ككل.

لذلك قررنا في مساق تغيير عقليتنا والتغاضي عن بعض الأمور التي اكتشفنا لاحقًا ما كنا لننتبه إليها لولا وجدها في حالة الإطلاق الأولي للجمهور.

اتجهت حينها إلى المصداقية والشفافية والصراحة مع الفريق، ركزنا على أن يكون هدفنا الحالي والوحيد هو الإطلاق، لأن طاقاتنا استُهلكت في هذا المشروع. لكن بعد الإطلاق سنُعيد تعريف هدفنا وسيكون أكبر همنا “كيف نخرج المنتج من مرحلة التجريب الأوّلي beta إلى مستوى أعلى” وهنا يتجدد الهدف والتوجه وتنتعش المعنويات من جديد. وها نحن نتبع هذا المبدأ ونطلق بالفعل وقد كان ما كنا نتوقعه، تجدّد شغف الفريق وحماسه ورجعنا نعمل بطاقة أكبر من قبل بعد الإطلاق الأوّلي.



الشاهد والخلاصة من التجربتين السابقتين أن اتباع مبدأ «النتائج الجيّدة بما فيه الكفاية أمرٌ كافٍ Good Enough is Fine» مهم في حياة الشركات عامة والشركات الناشئة بالتحديد نظرًا لقلة مواردها وعدم امتلاك رفاهية كافية لإنفاق وقت طويل على المشاريع، فاللحظة التي لا تنمو فيها في عالم الشركات الناشئة، يسبقك منافسيك والسوق وتُترك وحيدًا تحاول الوصول إلى الكمالية. لذا عليك دائمًا تفعيل هذا المبدأ وتضعه بالحسبان خلال أي مشروع تعمل عليه.

المدير الجيد بما فيه الكفاية Good Enough Manager (GEM)

أنا أؤمن بأن «التجارب» هي من تُكسب الفريق الخبرات، لذلك دومًا أكرر جملة «خلونا نجرّب» في الاجتماعات والنقاشات الداخلية، لكن أسعى دومًا لجعل هذه التجارب أكثر جدوى من خلال إرساء معايير وإرشادات عملية تضبط مخرجات كل مرحلة. هذه بعض من الإجراءات التي أحاول ترسيخها في ثقافة أي بيئة عمل أتواجد بها:

  • إتاحة مساحة للفشل والتعلم من الأخطاء. وفّر حرية كافية لمرؤوسيك وتحلّى بالمرونة لجعلهم يمارسون تجارب جديدة مما يجعلهم أكثر قدرة على تحمّل المخاطر في الأوقات الحرجة ومعرفة تداعيات كل تجربة على العمل.
  • تجنب الاستقلالية المطلقة في اتخاذ القرارات. أشرِك موظفيك دومًا وفوّض المهام. استقلالية التفكير تقودنا إلى التفكير بشكل خلاق، وتعزز الابتكار، والتدفق الحر لا يحدث بدون حرية تجربة أفكار جديدة بلا الحصول على تواقيع وموافقات عدة مستويات إدارية عليها.
  • تعرَّف على موظفيك كأفراد وابق قريبًا منهم. لا تجعل علاقتك تنتهي بمرؤوسك بمجرد إرسال تقرير العمل، كن منفتحًا على معرفتهم بعمق أكبر.
  • لا تنسَ أن موظفيك بشر بالنهاية لديهم حياة خاصة ومخططات بعيدًا عن العمل خلال اليوم، لذا احترمها.
  • تقمص دور المعلم والمرشد وساعد الفريق على اكتشاف نقاط قوتهم.
  • لا تلقي اللوم على فريقك أو تحجّم من عملهم مقابل عملك.

المدير الجيد بما فيه الكفاية هو القادر على الموازنة بين الإمساك بزمام الأمور وإشراك الموظفين وتشجيعهم على اتخاذ خطوات جريئة بدلًا من الاكتفاء بالقيادة والسيطرة المطلقة. كلّما رفعتَ من الصلاحيات والثقة لفريقك زادت المسؤولية والإحسان في إنتاج أعمال يفخرون به ويمثّلهم. وكلّما كانت القرارات تنزل من أعلى الهرم، كان الفريق مجرّد منفِّذ لأفكار وآراء من يقود الشركة.

الخاتمة

يساعدك مبدأ «النتائج الجيّدة بما فيه الكفاية أمرٌ كافٍ Good Enough is fine» على تبني عقلية قوية ومُنتجة إلى أبعد الحدود، حيث تتخلص من هوس الكمالية، وتزيد من قدراتك القيادية والتحكم باتجاه حياتك نحو المسار الصحيح.

المصادر:

مشاركة المحتوى:

4 تعليقات

  1. ما شاء الله عنك أخي عبدالسلام، مقالة مدروسة دراسة، كلمة كلمة. حتي أنا انبهرت بها كتنسيق ككتابة كمحتوى كرسالة في الآخير وصلتنا.
    الله يعطيك ألف عافية.

  2. مبدع بطريقة طرح الفكرة فعلا
    مبدا حساس جدا
    يحتاج للتركيز والتدقيق والتنفيذ
    ويتفرع منه مواضيع كثيرة
    والشخص الناجح هو الذي يشارك الافراد في النجاح

    بتمنالك التوفيق الدائم 🙏😊

  3. فكرة جديدة تحتاج لوقفة مع الذات
    أشكرك لهذا الطرح الجميل والسلاسة بالانتقال بين الأفكار مع دعمها بأمثلة حيوية من واقع تجربتك
    كل التوفيق لحضرتكم 👍

  4. ابداع ماشاء الله
    وشخصياً مقالة في وقتها فعلا 😄

    الافكار متميزة ولا يتطرق لها الكثيرون
    وطريقة العرض سلسة ومفهومة وممتعة

    كل التوفيق يارب 👏🏻

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *