لا شكّ أنّ الإنسان مخلوق استثنائي، يمتلك قدرة هائلة على التطوّر والإبداع. لقد كانت قناعتي الدائمة بأن قيمة الإنسان تتجلى في قدرته على الإنتاج والتجديد، وأمتعض من الهوس بالمسميات والشكليات، والسباق الدائم وراءها. في عالم مليء بالتسميات والألقاب، أصبح من الضروري تذكير أنّ قيمة الإنسان لن تكون أبدًا في مجرد لقب وظيفي أو اجتماعي.
قرأتُ في لامية “ابن الوردي” بيتين يرافقانني دومًا وكأنهما مبادئ أساسية أُطبقها في حياتي:
لا تقلْ أصلي وفَصلي أبداً إنما
أصلُ الفَتى ما قـد حَصَلْ
قيمـةُ الإنسانِ مـا يُحسنُهُ
أكثـرَ الإنسـانُ منـهُ أمْ أقَلْ
هذه الأبيات تجسّد جوهر القيمة الحقيقية للإنسان، حيث تتجاوز إطار المسمى والوظيفة لترتكز على ما يصنعه ويقدّمه في العالم. إنّ قيمته تتغير بناءً على تفانيه وجدارته في العمل، وهي ليست مقتصرة على اسم منصبه.
قيمة الإنسان ومكانته الفعلية بعلمه ومعرفته، فيُزاد بإجادته لعمله وبذل كل طاقته من أجلها، أو يقل عندما يتوقف عن فعل ذلك، وليس بمسماه الوظيفي.
في هذا السياق، يُظهر الأطباء مثالًا حيًّا على كيفية اكتساب المكانة والقيمة من خلال التفاني في مساعدة المرضى وتقديم العناية اللازمة. ليس مكانتهم وقيمتهم مرتبطة فقط بمهنتهم بل بالأخلاقيات والرعاية التي يُقدمونها للإنسان ككائن هش وبهجتهم في مساعدته على الشفاء.
لا يكتسب الطبيب مكانته وقيمته المطلقة لمجرد أنه طبيب، إنما يستوجب عليه أداء عمله بمسؤولية بالغة واحترام المريض والاعتناء به كحالة إنسانية قبل أن تكون وظيفة. بفعل ذلك، اكتسب الأطباء عبر الزمن مكانتهم العالية، وليس لأن مسمّاه “طبيب”.
الأمر نفسه ينطبق على المهندس، إذ لا يمتلك أيّ قيمة ومكانة مطلقة لأنه مجرد “مهندس”، بل تتعداها عندما يسعون للابتكار وتقديم حلول جديدة تعود بالفائدة على المجتمع. البحث المستمر والتطوير في ميدانهم يزيد من قيمتهم ويجعلهم عوامل فعّالة في تقدُّم البشرية.
بالمثل أساتذة وأكاديميو الجامعة لا يمتلكوا أي قيمة إذا لم يكونوا مجتهدين طوال الوقت ويحرصون على تناقل العلم بطرق مهذّبة والاهتمام بالطلبة كأمانة ومسؤولية عظيمة. يجب أن تكون هذه القيمة الأساسية التي يقدمونها لكي ينالوا المكانة والقيمة المطلقة في المجتمع.
من غير المنطقي أبدًا أن تتلقى تعليمًا بالغ السوء بسبب إهمال أستاذ جامعي لم يأبه بتقديم قيمة وبناء إرث حقيقي وكان يلهث فقط وراء “المسمى” والترقيات اللامتناهية على حساب مسؤوليته المعدومة، ثم نُطلق عليه “أستاذنا الجليل”! يجب أن يعلم هؤلاء أن “قيمة الإنسان ما يُحسنه أكثر الإنسان منه أم أقل”، ولم يحصلوا على ألقاب “كجليل، مُربّي، أمين وغيرها” بدون أي مقابل.
دعونا نتوقف عن منح الحصانة والميزات بلا مقابل لمجرد المسمّيات الوظيفية، أيّ كانت. فالألقاب والمسميات لا تكفي لمنح القيمة الحقيقية للإنسان.
رجاءً، فكّروا جيدًا في تأثير هذه الآفة على مجتمعاتنا قبل إعطاء ألقاب لمن لا يستحقون. دعونا نُقدّر الإنسان لما يُحسنه ويقدّمه، سواء كان طبيبًا، مهندسًا، أستاذًا، أو أي دور آخر. فالقيمة تبقى عالية بتفانيه في خدمة المجتمع وإحداث التغيير الإيجابي، لا بمجرد اسمه أو لقبه.
كل شخص لديه القدرة على المساهمة في المجتمع بطرق مختلفة، بغض النظر عن وظيفته. من المهم أن نتذكر أن الناس ليسوا رموزًا أو ألقابًا، إنما قيمة وإضافة.
عبدالسلام.